فصل: وفاة الأشرف بن العادل

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ ابن خلدون المسمى بـ «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» **


 وفاة العادل واقتسام الملك بين بنيه

قد ذكرنا خبر العادل مع الإفرنج الذين جاؤوا من وراء البحر إلى سواحل الشام سنة أربع عشرة وما وقع بينه وبينهم بعكا وبيسان وأنه عاد إلى مرج الصفر قريباً من دمشق فأقام به فلما سار الإفرنج إلى دمياط انتقل هو إلى خانقين فأقام بها‏.‏ ثم مرض وتوفي سابع جمادى الأخيرة سنة خمس عشرة وستمائة لثلاث وعشرين سنة من ملكه دمشق وخمس وسبعين من عمره‏.‏ وكان ابنه المعظم عيسى بنابلس فجاء ودفنه بدمشق‏.‏ وقام بملكها واستأثر بمخلفه من المال والسلاح وكان لا يعبر عنه‏.‏ يقال كان المال العين في سترته سبعمائة ألف دينار‏.‏ وكان ملكاً حليماً صبوراً مسدداً صاحب إفادة وخديعة منجمة في أحواله‏.‏ وكان قد قسم البلاد في حياته بين بنيه فمصر للكامل ودمشق والقدس وطبرية والكرك وما إليها للمعظم عيسى وخلاط وما إليها وبلاد الجزيرة غير الرها ونصيبين وميافارقين للأشرف موسى والرها وميافارقين لشهاب فلما توفي استقل كل منهم بعمله‏.‏ وبلغ الخبر بذلك إلى الملك الكامل بمكانه قبالة الإفرنج بدمياط فاضطرب عسكره وسعى المشطوب كما تقدم في ولاية أخيه الفائز ووصل الخبر بذلك إلى المعظم عيسى فأغذ السير من دمشق إليه بمصر‏.‏ وأخرج المشطوب إلى الشام فلحق بأخيهما الأشرف وصار في جملته‏.‏ واستقام للكامل ملكه بمصر ورجع المعظم من مصر فقصد القدس في ذي القعدة من السنة وخرب أسواره حذراً عليه من الإفرنج‏.‏ وملك الإفرنج دمياط كما ذكرناه‏.‏ وأقام الكامل قبالتهم والله تعالى ينصر من يشاء من عباده‏.‏

 وفاة المنصور صاحب حماة

وولاية ابنه الناصر قد تقدم لنا أن صلاح الدين كان قد أقطع تقي الدين عمر ابن أخيه شاهنشاه مدينة حماة وأعمالها ثم بعثه إلى الجزيرة سنة سبع وثمانين فملك حران والرها وسروج وميافارقين وما إليها من بلاد الجزيرة فأقطعه إياها صلاح الدين‏.‏ ثم سار إلى أرمينية وقصد بكتمر صاحب خلاط وحاصرها‏.‏ ثم انتقل إلى حصار ملازكرد‏.‏ وهلك عليها تلك السنة وتولى ابنه ناصر الدين محمد ويلقب المنصور على أعماله‏.‏ ثم انتزع صلاح الدين منه بلاد الجزيرة وأقطعها أخاه العادل وأبقى حماة وأعمالها بيد ناصر الدين محمد المذكور فلم تزل بيده إلى أن توفي سنة سبع عشرة وستمائة لثمان وعشرين سنة من ولايته عليها بعد مهلك عم أبيه صلاح الدين والعادل‏.‏ وكان ابنه ولي عهده المظفر عند العادل بمصر وابنه الآخر قليج أرسلان عند خاله المعظم عيسى بمكانه من حصاره‏.‏ فاستدعاه أهل دولته بحماة واشترط المعظم عليه مالاً يحمله وأطلقه إليهم فملك حماة وتلقب الناصر‏.‏ وجاءه أخوه ولي العهد من مصر فدافعه أهل حماة فرجع إلى دمشق عند المعظم وكاتبهم واستمالهم فلم يجيبوه ورجع إلى مصر والله تعالى أعلم‏.‏

 مسير صاحب بلاد الروم إلى حلب وانهزامه ودخولها في طاعة الأشرف

قد كنا قدمناه وفاة الظاهر غازي بن صلاح الدين صاحب حلب ومنبج سنة ثلاث عشرة وولاية ابنه الأصغر محمد العزيز غياث الدين في كفالة طغرل الخادم مولى أبيه الظاهر وأن شهاب الدين هذا الكامل أحسن السيرة وأفاض العدل وعف عن أموال الرعية‏.‏ ورد السعاية فيهم بعضهم على بعض‏.‏ وكان بحلب رجلان من الأشرار يكثران السعاية عند الظاهر ويغريانه بالناس ولقي الناس منهما شدة فأبعدهما شهاب الدين فيمن أبعد من أهل الشر ورد عليهما السعاية فكسدت سوقهما وتناولهما الناس بالألسنة والوعيد فلحقا ببلاد الروم وأطمعا صاحبها كيكاوس في ملك حلب وما بعدها‏.‏ ثم رأى أن ذلك لا يتم إلا أن يكون معه بعض بني أيوب لينقاد أهل البلاد إليه‏.‏ وكان الأفضل بن صلاح الدين بسميساط وقد دخل في طاعة كيكاوس غضباً من أخيه الظاهر وعمه العادل بما انتزعا من أعماله فاستدعاه كيكاوس وطلبه في المسير على أن يكون مات يفتحه من حلب وأعمالها للأفضل والخطبة والسكة لكيكاوس‏.‏ ثم يقصدون بلاد الأشراف بالجزيرة حران والرها وما إليهما على هذا الحكم وتحالفوا على ذلك وجمعوا العساكر وساروا سنة خمس عشرة فملكوا قلعة رغبان فتسلمها الأفضل‏.‏ ثم قلعة باشر من صاحبها ابن بدر الدين أرزم الباروقي بعد أن كانوا حاصروها وضيقوا عليها وملكها كيكاوس لنفسه فاستوحش الأفضك وأهل البلد أن يفعل مثل ذلك في حلب وكان شهاب الدين كافل العزيز بن الظاهر مقيماً بقلعة حلب لا يفارقها خشية عليها فطير الخبر إلى الملك الأشرف صاحب الجزيرة وخلاط لتكون طاعتهم وخطبتهم له والسكة باسمه ويأخذ من أعمال حلب ما اختار فجمع العساكر وسار إليهم سنة خمس عشرة ومعه وأميرهم نافع من خدمه وغيرهم من العرب‏.‏ ونزل بظاهر حلب وتوجه كيكاوس والأفضل من تل باشر إلى منبج‏.‏ وسار الأشرف نحوهم وفي مقدمته العرب فلقوا مقدمة كيكاوس فهزموها‏.‏ فلما عادوا إلى كيكاوس منهزمين أجفل إلى بلاده‏.‏ وسار الأشرف فملك رغبان وتل باشر وأخذ من كان بها من عساكر كيكاوس وأطلقهم فلحقوا بكيكاوس فجمعهم في دار وأحرقها عليهم فهلكوا‏.‏ وسلم الأشرف ما ملكه من قلاع حلب لشهاب الدين الخادم كافل العزيز بحلب واعتزم على اتباع كيكاوس إلى بلاده فأدركه دخول الموصل في طاعة الأشرف وملكه سنجار قد ذكرنا في دولة بني زنكي أن القاهر عز الدين مسعود صاحب الموصل توفي في ربيع سنة خمس عشرة وستمائة وولى ابنه نور الدين أرسلان شاه في كفالة مولى أبيه نور الدين لؤلؤ مولاه ومدبر دولته‏.‏ وكان أخوه عماد الدين زنكي في قلعة الصغد والسوس من أعمال الموصل بوصية أبيهما إليه بذلك وإنه بعد وفاة أخيه عز الدين طلب الأمر لنفسه وملك العمادية‏.‏ وظاهره مظفر الدين كوكبري صاحب إربل على شأنه فبعث نور الدين لؤلؤ إلى الأشرف موسى بن العادل والجزيرة كلها وخلاط وأعمالها في طاعته‏.‏ فأرسل إليه بالطاعة وكان على حلب مدافعاً لكياكاوس صاحب بلاد الروم كما نذكره بعد فأجابه الأشرف بالقبول ووعده النصر على أعدائه‏.‏ وكتب إلى مظفر الدين يقبح عليه ما وقع من نكث العهد في اليمن التي كانت بينهم جميعاً ويأمره بإعادة عماد الدين زنكي ما أخذه من بلاد الموصل وإلا فيسير بنفسه ويسترجعها ممن أخذها ويدعوه إلى ترك الفتنة والاشتغال معه بما هو فيه من جهاد الإفرنج‏.‏ فصمم مظفر الدين عن ندبته ووافقه صاحب ماردين وصاحب كيفا وآمد يجهز إلى الأشرف عسكراً إلى نصيبين للؤلؤ صاحب الموصل‏.‏ ثم جهز لؤلؤ العساكر إلى عماد الدين فهزموه ولحق بإربل عند المظفر ثم وثب عماد الدين زنكي إلى قلعة كواشي فملكها وبعث لؤلؤ إلى الأشرف وهو على حلب يستنجده فعبر الفرات إلى حران واستمال مظفر الدين ملوك الأطراف وحملهم على طاعة كيكاوس والخطبة به وكان عدو الأشرف ومنازعاً له في منبج كما نذكره‏.‏ وبعث أيضاً إلى الأمراء الذين مع الأشرف واستمالهم فأجابه منهم أحمد بن علي المشطوب صاحب القلعة مع الكامل على دمياط وعز الدين محمد بن نور الدين الحميدي‏.‏ وفارقوا الأشرف إلى دبيس تحت ماردين ليجتمعوا على منع الأشرف من العبور إلى الموصل‏.‏ ثم استمال الأشرف صاحب كيفا وآمد وأعطاه مدينة جانين وجبل الجودي ووعده بداراً إذا ملكها‏.‏ ولحق به صاحب كيفا وفارق أصحابه الملوك واقتدى به بعضهم في طاعة الأشرف والنزوع إليه فافترق ذلك الجمع وسار كل ملك إلى عمله‏.‏ وسار ابن المشطوب إلى إربل ومر بنصيبين فقاتله عساكرها وهزموه وافترق جمعه ومضى منهزماً‏.‏ واجتاز بسنجار وبها فروخ شاه عمر بن زنكي بن مودود فبعث إليه عسكراً فجاؤوا به أسيراً وكان في طاعة الأشرف فحبس له ابن المشطوب ثم رجاه فأطلقه وسار في جماعة من المفسدين إلى البقعاء من أعمال الموصل فاكتسحها وعاد إلى سنجار‏.‏ ثم سار ثانياً للإغارة على أعمال الموصل فأرصد له لؤلؤ عسكراً بتل أعفر من أعمال سنجار‏.‏ فلما مر بهم قاتلوه وصعد إلى تل أعفر منهزماً‏.‏ وجاء لؤلؤ من الموصل فحاصره بها شهراً أو بعضه وملكها منتصف ربيع الآخر من سنة سبع عشرة‏.‏ وحبس ابن المشطوب بالموصل‏.‏ ثم بعث به إلى الأشرف فحبسه بحران إلى أن توفي في ربيع الآخر من سنة سبع عشرة‏.‏ ولما افترق جمع الملوك سار الأشرف من حران محاصراً لماردين‏.‏ ثم صالحه على أن يرد عليه رأس عين وكان الأشرف أقطعه له‏.‏ وعلى أن يأخذ منه ثلاثين ألف دينار وعلى أن يعطي صاحب كيفا وآمد قلعة المورو من بلده‏.‏ رجع الأشرف من دبيس إلى نصيبين يريد الموصل وكان عمر صاحب سنجار لما أخذ منه لؤلؤ تل أعفر تخاذل عنه أصحابه وساءت ظنونهم بنفسه لما ساء فعله في أخيه وفي غيره فاعتزم على الإلقاء باليد للأشراف وتسليم سنجار له والاعتياض عنها بالرقة وبعث رسله إليه بذلك فلحقوه في طريقه من دبيس إلى نصيبين فأجاب إلى ذلك وسلم إليه الرقة وسلم سنجار في مستهل جمادى الأولى سنة سبعة عشر‏.‏ وفارقها عمر فروخ شاه وأخوته بأهليهم وأموالهم‏.‏ وسار الأشرف من سنجار إلى الموصل فوصلها تاسع عشر جمادى الأولى من السنة‏.‏ وجاءته رسل الخليفة ومظفر الدين في الصلح وردد ما أخذه عماد الدين من قلاع الموصل إلى لؤلؤ ما عدا العمادية‏.‏ وطال الحديث في ذلك ورحل الأشرف يريد إربل‏.‏ ثم شفع عنده صاحب كيفا وغيره من بطانته وأنهوا إليه العساكر فأجاب إلى هذا الصلح وفسح لهم في تسليم القلاع إلى مدة ضربوها‏.‏ وسار عماد الدين مع الأشرف حتى يتم تسليم الباقي ورحل الأشرف عن الموصل ثاني رمضان وبعث لؤلؤ نوابه إلى القلاع فامتنع جندها من تسليمها إليهم وانقضى الأجل‏.‏ واستمال عماد الدين زنكي شهاب الدين غازي أخا الأشرف فاستعطف له أخاه فأطلقه ورد عليه قلعة العقر وسوس وسلم لؤلؤ قلعة تل أعفر كما كانت من أعمال سنجار والله تعالى أعلم‏.‏ ارتجاع دمياط من يد الإفرنج ولما ملك الإفرنج دمياط أقبلوا على تحصينها ورجع الكامل إلى مصر وعسكر بأطراف الديار المصرية مسلحة عليها منهم‏.‏ وبنى المنصورة بعد المنزلة وأقام كذلك سنين‏.‏ وبلغ الإفرنج وراء البحر فتحها واستيلاء إخوانهم عليها فلجوا بذلك‏.‏ وتوالت إمدادهم في كل وقت إليها والكامل مقيم بمكانه‏.‏ وتواترت الأخبار بظهور التتر ووصولهم إلى أذربيجان وأران وأصبح المسلمون بمصر والشام على تخوف من سائر جهاتهم‏.‏ واستنجد الكامل بأخيه المعظم صاحب دمشق وأخيه الأشرف صاحب الجزيرة وأرمينية‏.‏ وسار المعظم إلى الأشرف يستحثه للوصول فوجده في شغل بالفتنة التي ذكرناها فعاد عنه إلى أن انقضت تلك الفتنة‏.‏ ثم تقدم الإفرنج من دمياط بعساكرهم إلى جهة مصر وأعاد الكامل خطابه إليهما سنة ثماني عشرة يستنجدهما‏.‏ وسار المعظم إلى الأشرف يستحثه فجاء معه إلى دمشق وسار منها إلى مصر ومعه عساكر حلب والناصر صاحب حماة وشيركوه صاحب حمص والأمجد صاحب بعلبك فوجدوا على بحر أشمون وقد سار الإفرنج من دمياط بجموعهم ونزلوا قبالته بعدوة النيل وهم يرمون على معسكره بالمجانيق والناس قد أشفقوا من الإفرنج على الديار المصرية فسار الكامل وبقي أخوه الأشرف بمصر‏.‏ وجاء المعظم بعد الأشرف وقصد دمياط يسابق الإفرنج ونزل الكامل والأشرف وظفرت شواني المسلمين بثلاث قطع من شواني الإفرنج فغنموها بما فيها‏.‏ ثم ترددت الرسل بينهم في تسليم دمياط على أن يأخذوا القدس وعسقلان وطبرية وصيدا وجبلة واللاذقية وجميع ما فتحه صلاح الدين غير الكرك فاشتطوا واشترطوا إعادة الكرك والشوبك وزيادة ثلاثمائة ألف دينار لرم أسوار القدس التي خربها المعظم والكامل فرجع المسلمون إلى قتالهم‏.‏ وافتقد الإفرنج الأقوات لأنهم لم يحملوها من دمياط ظناً بأنهم غالبون على السواد وميرته بأيديهم فبدا لهم ما لم يحتسبوا‏.‏ ثم فجر المسلمون النيل إلى العدوة التي كانوا عليها فركبها الماء ولم يبق لهم إلا مسلك ضيق‏.‏ ونصب الكامل الجسور عند أشمون فعبرت العساكر عليها وملكوا ذلك المسلك وحالوا بين الإفرنج وبين دمياط‏.‏ ووصل إليهم مركب مشحون بالمدد من الميرة والسلاح ومعه حراقات فخرجت عليها شواني المسلمين وهي في تلك الحال فغنموها بما فيها‏.‏ واشتد الحال عليهم في معسكرهم وأحاطت بهم عساكر المسلمين وهم في تلك الحال يقاتلونهم ويتخطفونهم من كل جانب فأحرقوا خيامهم ومجانيقهم وأرادوا الإستماتة في العود فرأوا ما حال بينهم وبينها من الرجل فاستأمنوا إلى الكامل والأشرف على تسليم دمياط من غير عوض‏.‏ وبينما هم في ذلك وصل المعظم صاحب دمشق من جهة دمياط كما مر فازدادوا وهناً وخذلاناً وسلموا دمياط منتصف سنة ثمان عشرة وأعطوا عشرين ملكاً منهم رهناً عليها‏.‏ وأرسلوا الأقسة والرهبان منهم إلى دمياط فسلموها للمسلمين وكان يوماً مشهوداً‏.‏ ووصلهم بعد تسليمها مدد من وراء البحر فلم يغن عنهم ودخلها المسلمون وقد حصنها الإفرنج فأصبحت من أمنع حصون الإسلام والله تعالى أعلم‏.‏

 وفاة الأوحد نجم الدين بن العادل صاحب خلاط وولاية أخيه الظاهر غازي عليها

قد تقدم لنا أن الأوحد نجم الدين بن عادل ملك ميافارقين وبعدها خلاط وأرمينية سنة ثلاث وستمائة‏.‏ ثم توفي سنة سبع فأقطع العادل ما كان بيده من الأعمال لأخيه الأشرف‏.‏ ثم أقطع العادل ابنه الظاهر غازي سنة ست عشرة سروج والرها وما إليها ولما توفي العادل واستقل ولده الأشرف بالبلاد الشرقية عقد لأخيه‏.‏ غازي على خلاط وميافارقين مضافاً إلى ولايته من أبيه العادل وهو سروج والرها‏.‏ وجعله ولي عهده لأنه كان عاقراً لا يولد له‏.‏ وأقام على ذلك أن انتقض على الأشرف عندما حدثت الفتنة بين بني العادل فانتزع أكثر الأعمال منه كما نذكره إن شاء الله تعالى‏.‏

 فتنة المعظم مع أخوية الكامل والأشرف

وما دعت إليه من الأحوال كان بنو العادل والكامل والأشرف والمعظم لما توفي أبوهم قد اشتغل كل واحد منهم بأعماله التي عهد له أبوه وكان الأشرف والمعظم يرجعان إلى الكامل وفي طاعته ثم تغلب عيسى على صاحب حماة الناصر بن المنصور بن المظفر وزحف سنة تسع عشرة إلى حماة فحاصرها وامتنعت عليه فسار إلى سلمية والمعرة من أعمالها فملكها وبعث إليه الكامل صاحب مصر بالنكير والإفراج عن البلد فامتثل وأضغن ذلك عليه وأقطع الكامل سلمية لنزيله المظفر بن المنصور أخي صاحب حماة وكشف المعظم قناعه في فتنة أخويه الكامل والأشرف‏.‏ وأرسل إلى ملوك الشرق يدعوهم إلى المظاهرة عليهما‏.‏ وكان جلال الدين منكبري بن علاء الدين خوارزم شاه قد رجع من الهند بعد ما غلبه التتر على خوارزم وخراسان وغزنة وعراق ثم رجع سنة إحدى وعشرين وستمائة فاستولى على فارس وغزنة وعراق العجم وأذربيجان ونزل توريز وجاور بني أيوب في أعمالهم فراسله المعظم صاحب دمشق وصالحه واستنجده على أخويه فأجابه‏.‏ ودعا المعظم الظاهر أخا الأشرف وعامله على خلاط والمظفر كوكبري صاحب إربل إلى ذلك فأجابوه كلهم وانتقض الظاهر غازي على أخيه الأشرف في خلاط وأرمينية وأظهر عصيانه في ولايته التي بيده إليه الأشرف سنة إحدى وعشرين وغلبه على خلاط فملكها وولى عليها حسام الدين أبا علي الموصلي كان أصله من الموصل‏.‏ واستخدم للأشرف وترقى في خدمته إلى أن ولاه خلاط وعفا الأشرف عن أخيه الظاهر غازي وأقره على ميافارقين‏.‏ وسار المظفر صاحب إربل ولؤلؤ صاحبها في طاعة الأشرف فحاصرها وامتنعت عليه ورجع عنها‏.‏ وسار المعظم بنفسه من دمشق إلى حمص وصاحبها شيركوه بن محمد بن شيركوه في طاعة الكامل فحاصرها وامتنعت عليه ورجع إلى دمشق‏.‏ ثم سار الأشرف إلى المعظم طالباً للصلح فأمسكه عنده على أن ينحرف عن طاعة الكامل‏.‏ وانطلق إلى بلده فاستمر على شأنه‏.‏ ثم زحف جلال الدين صاحب أذربيجان سنة أربع وعشرين إلى خلاط فحا صرهما مرة بعد مرة وأفرج عنها فسار حسام الدين نائبها إلى بلاد جلال الدين‏.‏ وملك حصونها واضطرب الحال بينهم وخشي الكامل مغبة الأمر مع المعظم بممالأته لجلال الدين والخوارزمية فاستنجد هو بالإفرنج وكاتب الإمبراطور ملكهم من وراء البحر يستحثه للقدوم على عكا في صريخه على أن ينزل له عن القدس‏.‏ وبلغ ذلك إلى المعظم فخشي العواقب وأقصر عن فتنته وكتب إليه يستعطفه والله تعالى أعلم‏.‏

 وفاة المعظم صاحب دمشق وولاية ابنه الناصر

ثم استيلاء الأشرف عليها واعتياض الناصر بالكرك ثم توفي المعظم بن العادل صاحب دمشق سنة أربع وعشرين وولي مكانه ابنه داود ولقب بالناصر‏.‏ وقام بتدبير ملكه عز الدين أتابك خادم أبيه وجرى على سنن المعظم أولاً في طاعة الكامل والخطبة‏.‏ ثم انتقض سنة خمس وعشرين عندما طالبه الكامل بالنزول له عن حصن الشوبك فامتنع وانتقض وسار الكامل إليه في العساكر فانتهى إلى غزة وانتزع القدس ونابلس من أيديهم وولى عليها من قبله‏.‏ واستنجد الناصر عمه الأشرف فجاءه إلى دمشق وخرج منها إلى نابلس‏.‏ ثم تقدم منها إلى الكامل لصلح أمر الناصر معه فدعاه الكامل إلى انتزاع دمشق من الناصر له وأقطعه إياها فلم يجب الناصر إلى ذلك‏.‏ وعاد إلى دمشق فحاصره الأشرف‏.‏ ثم صالح الكامل ملك الإفرنج ليفرغ لأمر دمشق عن الشواغل وأمكنهم من القدس على أن يخرب سورها فاستولوا عليها كذلك وزحف الكامل إلى دمشق سنة ست وعشرين فحاصرها مع الأشرف‏.‏ وخاف الحصار بالناصر فنزل لهما عنها على أن يستقل بالكرك والشوبك والبلقاء فسلموا له في ذلك وسار إليها‏.‏ واستولى الأشرف على دمشق ونزل الكامل عن أعماله وهي حران والرها وما إليهما وبمكانهما من حصار دمشق ووصل الخبر إلى الكامل بوفاة ابنه المسعود صاحب اليمن وقد مر خبره والله تعالى يؤيد بنصره من يشاء من عباده‏.‏

  استيلاء المظفر بن المنصور على حماة من يد أخيه الناصر

ولما ملك الكامل دمشق شرع في إنجاد نزيله المظفر محمود بن المنصور صاحب حماة وبها أخوه الناصر وقد كاتبه بعض أهل البلد يستدعونه لملكها فجهزه بالعساكر وسار إليها فحاصرها‏.‏ ودس لمن كاتبه من أهلها فأجابوه وواعدوه ليلاً فطرقها وتسورها وملكها‏.‏ وكتب إليه الكامل أن يقطع الناصر قلعة ماردين فأقطعه إياها وانتزع الكامل منه سلمية وأقطعها لصاحب حمص شيركوه بن محمد بن شيركوه واستقل المظفر محمود بملك حماة وفوض أمور دولته إلى حسام الدين علي بن أبي علي الهدباني فقام بها‏.‏ ثم استوحش منه فلحق بأبيه نجم الدين أيوب ولم تزل ماردين بيد الناصر أخي المظفر إلى سنه ثلاثين فهم الناصر بأن يملكها للإفرنج وشكا المظفر بذلك للكامل فأمره بانتزاعها منه‏.‏ ثم اعتقله الكامل إلى أن هلك سنة خمس وثلاثين

  استيلاء الأشرف على بعلبك

من يد الأمجد واقطاعها لأخيه إسماعيل بن العادل كان السلطان صلاح الدين قد أقطع الأمجد بهرام شاه بن فرخشاه أخي تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب قلعة بعلبك وكانت بصرى لخضر‏.‏ ثم صارت بعد وفاة العادل لابنه الأشرف وعليها أخوه إسماعيل بن العادل فجهزه سنة ست وعشرين إلى بعلبك وحاصر بها الأمجد حتى تسلمها منه على إقطاع أقطعه إياه‏.‏ وسار إسماعيل إلى دمشق فنزلها إلى أن قتله مواليه والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏ فتنة جلال الدين خوارزم شاه مع الأشرف واستيلاؤه على خلاط قد كنا قدمنا أن جلال الدين خوارزم شاه ملك أذربيجان وجاور أعمال بني أيوب‏.‏ وكان الأشرف قد ولى على خلاط لما انتزعها من يد أخيه غازي سنة اثنتين وعشرين حسام الدين أبا علي الموصلي‏.‏ ثم صالح المعظم جلال الدين خوارزم شاه ودعاه إلى الفتنة مع أخويه كما قدمناه فزحف جلال الدين خوارزم شاه إلى خلاط وحاصرها مرتين ورجع عنها فسار حسام الدين إلى بلده وملك بعض حصونه وداخل زوجته التي كانت زوجة إزبك بن البهلوان وكانت مقيمة بخوي وهجرها جلال الدين وقطع عنها ما كانت تعتاده من التحكيم في الدولة مع زوجها قبله فدست إلى حسام الدين نائب خلاط واستدعته هي وأهل خوي ليملكوه البلاد وكاتبه أهل بقجوان وملكوه بلدهم وعاد إلى خلاط ونقل معه زوجة جلال الدين وهي بنت السلطان طغرل فامتعض جلال الدين لذلك‏.‏ ثم ارتاب الأشرف بحسام الدين نائب خلاط وأرسل أكبر أمرائه عز الدين أيبك فقبض على حسام الدين وكان عدواً له وقتله غيلة وهرب مولاه فلحق بجلال الدين ثم زحف جلال الدين في شوال سنة ست وعشرين إلى خلاط فحاصرها ونصب عليها المجانيق وقطع عنها الميرة مدة ثمانية أشهر‏.‏ ثم ألح عليها بالقتال وملكها عنوة آخر جمادى الأولى من سنة سبع وعشرين وامتنع أيبك وحاميتها بالقلعة واستماتوا واستباح جلال الدين مدينة خلاط وعاث فيها بما لم يسمع بمثله‏.‏ ثم تغلب على القلعة وأسر أيبك نائب خلاط فدفعه إلى مولى حسام الدين نائبها قبله فقتله بيده والله تعالى أعلم‏.‏

 مسير الكامل في انجاد الأشرف وهزيمة جلال الدين أمام الأشرف

ولما استولى جلال الدين على خلاط سار الأشرف من دمشق إلى أخيه الكامل بمصر يستنجده فسار معه وولى على مصر ابنه العادل ولقيه في طريقه صاحب الكرك الناصر بن المعظم وصاحب حماة المظفر بن المنصور وسائر بني أيوب‏.‏ وانتهى إلى سلمية وكلهم في طاعته‏.‏ ثم سار إلى آمد فملكها من يد مسعود بن محمد ابن الصالح بن محمد بن أرسلان بن سقمان بن أرتق وكان صلاح الدين أقطعه إياها عندما ملكها من ابن نعشان فلما نزل إليه اعتقله وملك آمد‏.‏ ثم انطلق بعد وفاة الكامل من الاعتقال ولحق بالتتر‏.‏ ثم استولى الكامل على البلاد الشرقية التي نزل له عنها الأشرف عوضاً عن دمشق وهي حران والرها وما إليهما‏.‏ ولما تسلمها ولى عليها ابنه الصالح نجم الدين أيوب وكان جلال الدين لما ملك خلاط حضر معه صاحب أرزن الروم فاغتم لذلك علاء الدين كيقباد ملك بلاد الروم لما بينه وبين صاحب أرزن من العداوة والقرابة وخشيهما على ملكه فبعث إلى الكامل والأشرف بحران يستنجدهما ويستحث الأشرف للوصول فجمع عساكر الجزيرة والشام‏.‏ وسار إلى علاء الدين فاجتمع معه بسيواس وسار نحو خلاط‏.‏ وسار جلال الدين للقائهما والتقوا بأعمال أرزنكان وتقدم عسكر حلب للقتال ومقدمهم عز الدين عمر بن علي الهكاري من أعظم الشجعان فلم يثبت لهم مصاف جلال الدين‏.‏ وانهزم إلى خلاط فأخرج حاميته منها ولحق بأذربيجان‏.‏ ووقف الأشرف على خلاط وهي خاوية‏.‏ وكان صاحب أرزن الروم مع جلال الدين فجيء به أسيراً إلى ابن عمه علاء الدين صاحب بلاد الروم فسار به إلى أرزن وسلمها له وما يتبعها من القلاع‏.‏ ثم ترددت الرسل بينهم وبين جلال الدين في الصلح فاصطلحوا كل على ما بيده وتحالفوا وعاد الأشرف إلى سنجار‏.‏ وسار أخوه غازي صاحب ميافارقين فحاصر مدينة أرزن من ديار بكر وكان حاضراً مع الأشرف في هذه الحروب وأسره جلال الدين ثم أطلقه بعد أن أخذ عليه العهد في طاعته فسار إليه شهاب الدين غازي وحاصره وهلك منه أرزن صلحاً وأعطاه عنها مدينة جاني من ديار بكر وكان اسمه حسام الدين وكان من بيت عريق في الملك يعرفون ببني الأحدب أقطعها لهم السلطان ملك شاه والله تعالى أعلم‏.‏

  استيلاء العزيز صاحب حلب على شيزر ثم وفاته

وولاية ابنه الناصر بعده كان سابق الدين عثمان بن الداية من أمراء الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي واعتقله ابنه الصالح إسماعيل فنكر عليه صلاح الدين ذلك وسار ببنيه إلى دمشق فملكها وأقطع سابق الدين شيزر فلم تزل له ولبنيه إلى أن استقرت لشهاب الدين يوسف بن مسعود بن سابق الدين فسار إليه صاحب حلب محمد بن العزيز بن الغازي الظاهر بأمر الكامل سنة ثلاثين وستمائة وملكها من يده‏.‏ ثم هلك سنة أربع وثلاثين وملك في حلب مكانه ابنه الناصر يوسف في كفالة جدته لأبيه صفية خاتون بنت العادل‏.‏ واستولى على الدولة شمس الدين لؤلؤ الأرمني وعز الدين المجلي وإقبال الخاتوني وكلهم في تصريفها والله تعالى ينصر من يشاء من عباده‏.‏ فتنة كيقباد صاحب بلاد الروم واستيلاؤه على خلاط كان كيقباد بن كيكاوس صاحب بلاد الروم قد استفحل ملكه بها ومد يده إلى ما يجاورها من البلاد فملك خلاط بعد أن دفع عنها مع الأشرف جلال الدين شاه كما قدمناه ونازعه الأشرف في ذلك واستنجد بأخيه الكامل فسار بالعساكر من مصر سنة إحدى وثلاثين‏.‏ وسار معه الملوك من أهل بيته وانتهى إلى النهر الأزرق من تخوم الروم‏.‏ وبعث في مقدمته المظفر صاحب حماة من أهل بيته فلقيه كيقباد وهزمه وحصره في خرت برت وتخاذل عن الحرب‏.‏ ثم استأمن المظفر صاحب حماة إلى كيقباد فأمنه وملك خرت برت وكان لبني أرتق ورجع الكامل بالعساكر إلى مصر سنة اثنتين وثلاثين وكيقباد في اتباعهم‏.‏ ثم سار إلى حران والرها فملكها من يد نواب الكامل وولى عليها من قبله وسار الكامل سنة ثلاث وثلاثين والله أعلم‏.‏

 وفاة الأشرف بن العادل

و استيلاء الكامل على ممالكه كان الأشرف سنة أربع وثلاثين قد استوحش من أخيه الكامل ونقض طاعته ومالأه على ذلك أهل حلب وكنخسرو صاحب بلاد الروم وجميع ملوك الشام من قرابتهما غير الناصر بن المعظم صاحب الكرك فإنه أقام على طاعة الكامل وسار إليه بمصر فتلقاه بالمبرة والتكرمة ثم هلك الأشرف خلال ذلك سنة خمس وثلاثين وعهد بملك دمشق لأخيه الصالح إسماعيل صاحب بصرى فسار إليها وملكها‏.‏ وبقي الملوك في وفاقه على الكامل كما كانوا على عهد الأشرف إلا المظفر صاحب حماة فإنه عدل عنهم إلى الكامل وسار الكامل إلى دمشق فحاصرها وضيق عليها حتى تسلمها صلحاً من الصالح وعوضه عنها بعلبك واستولى على سائر أعمال الأشرف ودخل سائر بني أيوب في طاعته والله أعلم‏.‏